مترجم: ما بين الاكتئاب والحداد «أحزان فريدة كبصمات الأصابع»



"للموتى وللأحياء، لابُد وأن تُدلى الشهادة” -ايلي ويزل
أحزاننا الشخصية فريدة كبصمات الأصابع، لكن ما يشترك فيه الغالبية بغض النظر عن مقدار الحزن، هو حاجتهم إلى توثيق الخيبات، وهذا لا يعني احتياج لشخص معين، ليقلل من حجم المأساة، أو يحاول إعادة صياغتها، إنما هو احتياج لمن يقدر فداحة الخسارة، دون أن يحاول الإشارة إلى الجانب المشرق... يتأسس هذا الاحتياج بداخلنا حين تربطنا مشاعرنا بشخص آخر، وفى تلك الروابط يكمُنُ مفتاح النجاة، فمنذ لحظة ولادتنا ندرك بأننا لسنا وحدنا، أدمغتنا مجهزة بـ (الخلايا العصبية العاكسة) وهي السبب في أنه (حين تبتسم الأم) فإن (الطفل يبادلها الابتسامة) وهذا يستمر إلى مرحلة البلوغ.
ما زلت أذكُرُ حين نزلت إلى الشارع وقال لي رجل Howdy (وهي تحية غير رسمية نشأت في لهجة جنوب إنجلترا) ومع أني عادة لست من يقول “Howdy” إلا أنني غريزياً رديت بنفس التحية! وهذا أكبر من مجرد نسخ تعبيرات بعضنا البعض، إنه أيضاً عن المشاعر التي تكمن خلف تلك التعابير. يمكن تطابق الخلايا العصبية بين الأم والطفل من التقاط عواطف بعضهما البعض.

الاكتئاب والوحدة: من عواطف الأطفال إلى اعترافات البالغين

الدكتور (إدوارد ترونيك) وهو جزء من فريق علم النفس الذي قام بتصوير تجربته في فيديو قصير يوضح "ماذا يحدث إذا لم يشعر الأطفال بأن عواطفهم تنعكس ويُعترف بها ممن حولهم؟" ويبدأ حين نرى طفلاً في العاشرة من العمر، يجلس على مقعد بظهر عال، عيناه مبتسمتان ومثبتتان على وجه أمه المبتسم بالمثل، يعكس الطفل وأمه بعضهما (كما أسلفنا) أحدهما يضحك؛ فيضحك الآخر، الطفل يُشير والأم تنظر إلى حيث أشار، بعد ذلك، وبتوجيه من الباحثين، فإن الأم تنظُر بعيداً، وحين تعود بنظرتها إلى الطفل تقوم برسم ملامح فارغة على وجهها، ليبدأ الطفل المرتبك في عمل أي شيء؛ للحصول على أي ردة فعل منها، يبكي ويصرخ، كأنه في محنة، وهو رد فعل فطري، لأن الأطفال يعرفون في مستوى اللاوعي أنهم يحتاجون إلى الآخرين للبقاء على قيد الحياة، لذا فإنهم يعانون حين يعتمد بقائهم على شخص لا يستطيع أن يكون حاضراً فعلاً من أجلهم.
وبالمثل بالنسبة للبالغين، عندما يصيبهم الاكتئاب الحاد فإنهم يحتاجون إلى آخرين يشعرون بهم، إلى اعتراف يشاركونه مع أحدهم، لكن وفي عالم مصاب بـ (فرط الانشغال والحركة) فإن الاكتئاب تم تقليصه وتعقيمه. ثلاثة أيام إجازة تحصل عليهم بعد موت عزيز عليك، ومن ثم يتوقع الجميع استمرارك وكأن شيئاً لم يحدث، هناك فرص وأشخاص أقل ممن حولك ليشهدوا على أحزانك، مما يبدو إغراقاً في العزلة.
في أثناء رحلتي إلى استراليا قابلت باحثة أخبرتني عن العمل الذي تقوم به، وهو دراسة طريقة حياة أولاد البلد الأصليين في قرى شمال استراليا، حيث أخبرها أحد المزارعين أنه في ليلة موت أحدهم، فإن كل شخص في القرية يقوم بتحريك قطعة أثاث أو أي شيء أخر، من منزله إلى فناء العائلة الثكلى، لتكتشف العائلة في اليوم التالي أن كل شيء قد تغيّر بعد موت فقيدهم، ليس فقط بالنسبة لهم، ولكن بالنسبة للجميع. 
«هكذا يعبر هؤلاء عن أحزانهم، يوثقون خيباتهم ببصمات مرئية، ويظهرون الحداد بصورة ملموسة»
وفي المدينة أيضاً، كان شائعاً أن نقف سوياً كجماعة لنشهد تجربة الحزن عند فقدان عزيز، أما في ثقافتنا الحالية، فإن المُعَزّى يشعر أنه على الرغم من تهدم عالمه الخاص، فإن عوالم الأخرين تمضي قدماً وكأن شيئاً لم يحدث! أصبحت طقوس الحداد أقل، وكذلك الوقت المخصص لها.
لابد وأن يوّحدنا الحزن، فهو تجربة عالمية، فإن كنا نتحدث عن شخص ما مصاب بمرض جسدي، فيمكننا أن نستمع ونتعاطف، وكأننا لا يمكن أن نواجه تلك المشكلة على الإطلاق! ولكن عندما نكون بصحبة شخص فقد عزيز عليه، فإننا نعرف أننا كنّا أو سوف نكون في مكانه يوماً ما، لنفهم ما يعانون منه، لا أن نحاول تغييره. كما أننا نشعر بامتياز خاص حين يشاركنا أحدهم أحزانه، أن يختارني ليقدم اعترافه المعتق بالآلام والأحزان، حالة ضعف الشخص في حد ذاتها، قد تتسبب في خروجه من عزلته، بشرط أن تتم بدون أحكام.

«الاكتئاب هو ما يدور بداخلنا، أما الحداد فهو ما نفعله في الخارج» 
غالباً ما يقترح الغرباء (حسنوا النيّة) على المقربين من المتوفى أن يحتضنوا الحياة، زاعمين أن الوقت قد حان للمضي قدماً وترك الحداد، لكن الحداد يجب أن يبقي دوماً في منطقة الا أحكام... من يشعرون بك ويعرفون ما تمر به جيداً، لن يطلقوا عليك أحكاماً، ولن يخبروك بأن حزنك بات لا يتناسب مع ما مرَّ من فترة طويلة، الحسرة هي ما يسكن بداخلنا، أما الحداد فهو ما نُبديه من الخارج. الاكتئاب: هو سلسلة من العمل الداخلي، هو رحلة، ليس لها أبعاد، ولا تنتهي في تاريخ معين.
أما حين يسألني الناس (الى متى نُعاني؟!) فإنني أجيبهم (كم مضى على فقدان محبوبك؟) هذا هو الوقت، ولا أعني أن هذا يدوم للأبد، ولكنك لن تستطيع نسيانه، ولن تستطيع ملئ الثقب الفريد الذي تركه في قلبك برحيله. ولهذا أطلقت عليها (أحجية السنة الواحدة) فنحن معرضون للإصابة بجميع أنواع الاكتئاب خلالها، تلك الأنواع التي لا تصلح في التحكم عن بُعد، أثناء السنة الأولى للخسارة فإنك مُعرض للاكتئاب الحاد شديد القسوة، أما بعدها فإن حزنك سوف بصبح مذبذباً، ستشعر وكأنه ينطفئ، ثم يحدث شيئاً بعدها، فيعاودك الألم كاملاً، مع مرور الوقت سوف تتأذى بصورة أقل مع انخفاض كثافة الأسى، لكنّه سيكون هناك دائماً.
بهذا القدر أكون قد قدمت إجابة للسؤال، لكنّها تظل كما هي، غامضة ولا تغطي جميع الاحتمالات، فعلى مدار سنوات من العمل الحزين، أدركتُ أنني إذا ما رأيت شخصاُ حزيناً، فقد رأيت (شخصاً واحداً) حزيناً، لا يمُكن مقارنته مع آخر سواه، حتى وإنا كانا من نفس العائلة، شقيقة تبكي كثيراً، والأخرى لا تبكي أبداً، أخ خام وضعيف، والأخر مقدام، بعض الناس يستطيعون التعبير، بينما يخجل آخرون من مشاعرهم، أحدهم لديه أحاسيس أكثر، بينما الآخر لديه أقل، بعضهم أكثر عملية وانتاجية في أسلوب حزنه، أو لديه ثقافة (شد الحزام، واستمر). فلربما نعتقد خطئاً أن أولئك الذين لا تظهر عليهم أعراض الاكتئاب، هم بحاجة إلى مجموعات علاج، أو مشاركة أحزانهم، لكنه إن لم يكن أسلوب حياتهم العادي، فلن يكون أسلوبهم في الاكتئاب، فكلٌ يواجه حزنه بطريقته الخاصة -حتى ولو بالموسيقى-واقتراحات خلاف ذلك قد لا تكون مفيدة.

الحداد (اونلاين) والعلاقة بين الأمل والاكتئاب

في عالمنا الحديث يتم توثيق الأحزان اونلاين (على وسائل التواصل الاجتماعي)، فحين أضع منشوراً أو مقولة عن الاكتئاب، فإنني ألاحظ أنواعاً مختلفة من ردود الفعل، فإذا ما نشرت اقتباساً عن التفاؤل في العلاج من الاكتئاب، فإنه يعطي الأمل إلى الكثير من الناس، لكنه لا يبلغ مداه عند الآخرين، أولئك الذين يقعون في مكان مظلم، غير مستعدين للسماع حول الأمل، لأنهم في الخطوات الأولى من عملية الاكتئاب، أو لأن مشاعرهم حادة جداً، لذا فإنها لا تسمح لأي مشاعر أخرى، نهم يريدون فقط لظلام اكتئابهم أن بصبح مرئياً أكثر، ومُعترفٌ به، ودموعهم هي أدلة محبتهم، برهان بأن الذي مات هو شخص مهم للغاية. 
فمثلاً حين أنشر شيئاً مثل "اليوم يبدو وكأنه لا نهاية للألم" أو "وكأن الحزن سحابة ضخمة تغطي السماء بأكملها" فإن هذا ما سيكون له صدى لديهم، فإنه يعكس ويؤكد على مشاعرهم، والتي تستدعي العزاء أكثر من رؤية الجوانب الإيجابية في الموقف. بعضاً من الاكتئاب يتخذ شكلاً ظلامياً، أما البعض فيكون مضيئاً، ومن الخطأ أن نعتقد بأن أحدهما أفضل من الأخر، أو بأن هناك طريقة صحيحة للحزن، فإن هناك طرقاً عديدة للحداد، ومشاعر مختلفة تثيرها الخسارة، وقد ينطبق هذا على علاقتنا بالأمل أيضاً، فالأمل يمكن أن يصبح كالأكسجين لأناس يعانون من الاكتئاب، أما بالنسبة لأخرين، خاصة في المراحل الأولى للفقدان ف "كيف تجرؤ على طلب الشعور بالأمل أثناء حدادهم، ولماذا يكون الأمل، أم أنك تأمل في تحسين حالتي لكي تشعر براحة أفضل؟!" للأمل علاقة وثيقة بالمعنى، فكما يتغير المعني حسبما نعنيه، كذلك هو الأمل قد يتغير في بعض الأحيان، وخاصة مع شخص عالق في الحزن، فعندما تقول "يبدو أن الأمل مات مع من تحب، قد ضاع كل شيء" ستُفاجئ حين يؤكدون "نعم، هذا كل شيء" فهم يشعرون بالاعتراف. يقولون: "وفاة أحدهم هو فاجعة دائمة، لكن فقدان الأمل يمكن أن يكون مؤقتاً، حتى يمكنك العثور عليه، ربما يحمله لك شخصاً آخر، فهناك أمل بالنسبة لك، وهو لا يحبط مشاعرك بطريقتها الحالية، لكنه لا يعطي للموت قوة أكبر من التي لديه بالفعل، فالموت يُنهي الحياة، لكنه لا يُنهي علاقتنا، حُبُنا، وأمالُنا..."


أحزاننا: تلك البصمات الفريدة التي ربما لا يشعر بها أحد

أحياناً أقابل شخصاً ما يُعاني من الاكتئاب فيقول لي أن صديقه، أو أن فرداً ما من عائلته قد قال شيئاً مريعاً! والذي غالباً ما يتبين أنه نوع ما من "الوقت سيشفيك" أو "كن سعيداَ، لأن من فقدت يرقد بسعادة الآن!" بعض التصريحات قد تُشعر بأن الأحزان لا يمكن وأن تُفهم (كبصمات فريدة لا تخص أحداً سوى من يحملها) يريد معظمنا أن يقول شيئاً مفيداً، لكننا قد لا ندرك أن التوصيل والوقت، كلاهما متوقفان... فإذا كان المكتئب يحتاج إلى البقاء في الظلام لفترة من الوقت، فإن أي نوع من الضوضاء سيكون مؤلماً للغاية.
«يجب أن ننظر حقاً إلى الشخص الذي نحاول إراحته، فالخسارة يمكن أن تصبح ذات معناً، وأكثر احتمالاً، حينما تنعكس في عيون الآخرين بدقة»
كما أن علينا أن نتذكر دوماً أن أفكارنا حول الشخص الميت، لا تنتمي بأي صلة لمن فقده، فربما نعتقد أن والدة أحدهم كانت بغيضة، لدرجة لا تستحق الحزن عليها، أو لأننا نعلم أن زوج الأخت لم يكن مخلصاً، فلما البكاء عليه؟! لكن ما نفكر به لا علاقة له على الإطلاق بمشاعر من يرفعون الحداد، وهم لن يشعروا بالارتياح لدى سماعهم نقداً ما يخص أحبائهم لأنهم لا يستحقون الحزن. ولذلك فإن الأشخاص الذين يعانون من فقدان حيواناتهم الأليفة، يعلّقون على قلة فهم الناس لحزنهم، ففي الأشهر التي أعقبت وفاة ابني، عانى أحد أصدقائي الأعزاء من فقدان كلبه الحبوب في السادسة عشرة من عمره، كنت قلقاً حين اتصلت به لأقدم التعازي، لكنه بادلني ايّاها قائلاً "خسارتك أكثر فداحة من خسارتي" لم أستطع حينها أن أرى دموعه، وقد كنت أعتقد أن خسارته أقلُ معناً وإيلاماً مما لدي... كل خسارة لها معني، وكلها يٌعترفُ بها، ويعلن لأجلها الحداد، لذا فقد أصبح لدي قاعدة تخص فقدان الحيوانات الأليفة "إن كان الحب حقيقياً، فإن الحزن حقيقي أيضاً" يأتي الحزن مع الخسارة ليختبرا أعماق الحب، وللحب أشكال عديدة في هذه الحياة.

هذه ترجمة كاملة (بتصرف لغوي من المترجم) لمقال بعنوان:
Our Experience of Grief is Unique as a Fingerprint (the Difference between Mourning and Grief)
لقراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية

ليست هناك تعليقات