قصة الكورونا المرفوضة "اسماعين الحزين في حارة الكوارنتين"
تباً لك يا اسماعين... كيف سرقت تفكيري في عزّ الكوارنتين؟!
لم أجد بداية أفضل منها لتلك
الخواطر المخبولة التي اكتبها الآن... بصراحة لم يكن رجلاً كـ (إسماعيل البهلاوي)
ليستحق التفكير من الأصل، لا أقصد إهانته وإنما أتعجب فقط من موقفه المفاجئ داخل
رأسي، فلم يكن "اسماعين ابن المجانين" إلا مجرد صاحب محل عصير في
شارعنا؛ لا يلقى له بالاً إلا في الحر، ولا يملك كرجل للقصب ما يكسبه سمعة قوية في
شارعٍ تباع الأعضاء البشرية على نواصيه، وتُذبح الفاتنات بين أروقته إذا ما قررّن اعتراض
أوامر المعلم "السكاكيني" -حتى وإن كانت شاذة في بعض الأحيان-.
حكى لي جاري ذات مرة أن السكاكيني
قام بشقّ وجه فتاة تُسمى (سلمي السكّرة) إلى نصفين على باب محل البهلاوي، وذلك دون
أن يتحرك "اسماعين"، بل دون أن يحاول الخروج من خلف "الفاترينة"
الزجاجية.
***
اعتدت العبور من فوق بحيرة ابن
المجانين كل صباح –وهي بحيرة يملأها اسماعين من خرطوم يتركه مفتوحاً لساعات أمام
المحل-فقد كان يعشق الماء لأسباب لم يعترف بها أبداً، واكتفى بهز رأسه لمن يعبر عن
استياءه من المارّة، ثم أوقف خاصية (هز الرأس) بشأن هذا الأمر واستبدلها بابتسامة
باهتة ميّزت شخصيته عن الآخرين بابتساماتهم العاقلة السمجة.
بغض النظر عن سمعته الحزينة التي اكتسبها من (الأغاني
الغريبة) التي يسمعها –فلن ترى صاحب محل قصب مصري يسمع الموسيقى التركية إلا في
الأفلام أو في مستشفى المجانين-ولذا جاءت شهرته المحدودة كمجنون حزين وغريب
الأطوار، لا يبتسم، أو يبتسم بلا سبب، ولا يتكلم إلا بالقليل. أما نحن فقد اعتدنا إحداث ضجة كلما مررنا من
أمام محله "يا بهلاااوي يا عساال" "ما تطفي المزيكا دي وتشغل حاجة
عدلة يا ابن الكئيبة" "يا قصبة على فلة وياسمين يا ابْو سُمعة" لم
يكن يرد في الأغلب، كان فقط يُشير الينا من وراء الزجاج.
***
2020 وما زال اسماعين هو اسماعين،
لكن حذّر ما الذي جاءت به الأقدار إلى هذا المسكين؟ ... نعم إنه الكوارنتين،
الخازوق المتين، وأي قافية يمكن أن يستغلها ضده أمثالنا من المغفّلين.
في البداية لم يسمع أحد في شارعنا
الضيق عن هذا "الكوارنتين" أو
تكوينه، حتى الـ "سانتايزر" لم يتسرب إلينا حتى بعد انتشار الكورونا
إلّا ببطيء شديد، ودخل مضروباً في محلات الصابون ثم تكفلّ باختراعه لأبناء الشارع
(الحاج سيد) ربنا يكرمه، مع زوجته الـ (نيرس فوزية) سيدة الكمامات الأولى. أما
الحجر الصحي أو لفظ الكوارنتين فقد انتقل الينا عبر التلفزيون الذي رأي مثلما
رأينا "روشنة" غير طبيعية في هذا المصطلح الغني بالقافية
و"القلشات".
***
-تم إغلاق كل المحلّات التي لا
أهمية لها في ظل وجود الوباء، تأكدت السلطات من إغلاق جميع النشاطات، وأصبحت شوارع
اليوم مملوكة للكلاب الضالة التي كان يركلها أطفال الشارع بالأمس.
-شاركنا جميعاً (400) شخص في جمع
20.000ج لـإسماعين الحزين قبل بدء فترة الحظر، وذلك بعد أن شاع خبر أنه قد نوى
الزواج فجأة برغم أنه لا يملك كل المصاريف اللازمة لتجهيز شقته، سرى الخبر بأساليب
اختلفت حسب لسان راويها فمنهم من قال: "احنا لازم نساعده، الدنيا فانية،
الناس بتموت، والواد طول عمره حزين".
-سمعت أمي تقول لجارتنا "حتى لو رمضان لسه مجاش بردو
تعتبر صدقة اسماعين ده مسكين" حتى ست الحبايب اكلتها لعنة القافية دون إنذار ... حُلّت المشكلات، أُغلقت المحلات، وذهب اسماعين
ليفوز بـ "التبات والنبات".
***
جاء رمضان ولم يحدث جديد بخصوص
الكوارنتين في الحارة سوى انتفاخ ثروة الحاج فوزي وحرمه، توفى عدة أشخاص ممن
نعرفهم ونحبهم، ترحمنا عليهم وصلينا من قلوبنا، لكن ذلك لم يمنعنا من متابعة
المسلسلات على السطح 15 شخص على الأقل، حتى وإن أصبحنا 14 في اليوم التالي! ثم
انتهى رمضان وجاءت "الواقفة" بكحولياتها التي لا تختلف كثيراً -كونها
مصرية-عما يعرضه (الحاج سيد).
-فجأة سمعنا ضجة كبيرة في الشارع مع
صوت طبول ومزامير صعيدية، اعتقدنا أنه المعلم السكاكيني فهو أشهر الصعايدة عندنا،
قلنا "يمكن ربنا فك سجنه أو أخذ حسن سير وفيروس" فأخرجوه... وهو ما حدث
بالفعل لكن بصورة لم نتخيلها بهذه الغرابة أو الطرافة –إن صح التعبير-.
***
اسماعين البهلاوي اتجوز يا
ولاد...شاهد من يراقص العروسة فوق سيارة 12/ نقل... إنه
المعلم السكاكيني!
الرؤية بدت غير واضحة من مكاني في
البلكونة، كنت أشعر وأنا أشاهد الحفل الصاخب، المصفقين بأفواههم الفاغرة، والراقصين
المرتعشة سيقانهم خشية قطعها من قبل المعلم، بأن الكاميرا الخفية جاءت بعد موعدها
(رمضان) بشهر تقريباً في بث حي يرتدي فيه (البهلاوي) بذلة الفرح ويكتفي بالدقّ على
سطح السيارة حتى تكتمل نشوة العروس التي ترقص بكل أعضائها مع خطوات المعلم الخشنة...
لم أنسى أي تفصيله صغيرة في هذا
المشهد "الباذنجاني" الرهيب، ولن أنسى أن العروس كانت لا تمتلك سوى نصف
وجه، نصف ابتسامة هي كل ما تبقى على وجه (سلمى السكرة).
***
اختفى اسماعين وعروسته -في شقتهم التي تقع فوق قهوة المعلم السكاكيني مباشرة-ولم يتبقى لنا في الشارع سوى الحكايات، تداول الأهالي الخبر فقالوا: "البت سلمى اتنازلت عن المحضر بعد ما المعلم قالها انه هيضمنلها راجل يقبلها بنص وش، وجاب الواد اسماعين خرشم وشه وقاله يا تتجوزها يا اخليك تشبهها، ومتقلقش كل المصاريف عليا وشقتك كمان عندي، ثم خرج براءة ليحتفل مع الحبايب في ليلة واحدة –الله وحده يعلم كانت ليلة مين"...
ثم اختفى الحديث تدريجياً حول سلمى واسماعين، خاصة بعد أن أفتى الشيخ (سيد النجم) بأن الخوض في الأعراض حرام –بعد أن استمع إلى الحكاية كلها بالطبع-واضطر اسماعين الحزين إلى بيع محلّه للمعلم السكاكيني بعد أن وجد جدار المحل وأبوابه مكتوبٌ عليها كل أنواع البذاءات التي لا يمكن أن يتحملها فعلاً سوى باب أو جدار صلد، أما اسماعين فلم يكن سوى مثلما قالت أمي "مسكين".
- عالمياً أيضاً تصاعدت الأرقام بشكل
مريب، الجائحة كانت قد نبت لها العديد من الأجنحة المخيفة، ثم طارت فوقنا لتسيطر
كالوحش على مسار الأحاديث كلّياً، وتحتل مرتبة ربما هي أكثر رعباً في قلوبنا من
تلك التي يحتلها السكاكيني في قلب اسماعين.
***
لا أدري كيف بدأت اللوْثة أو
"الجنّونة" التي حلّت باسماعين، بالطبع وجدت أمي فيما يفعله دليلاً كبيراً
على وجود "الندّاهة" في مخزن الأنابيب كما زعمت منذ سنوات وحيث ينام
اسماعين في بعض الأحيان، لكنني ما زلت لا أعتقد أن هذا هو أصل حكاية (لوّثة
اسماعين الجديدة)، ولو أنني عرفت أصلها لما فكرت فيها ولا احتلت مكتبي وعقلي، ولا
أدري لماذا أصبح مجانين هذا الزمان تحديداً في غاية الإثارة والتعقيد؟!
*كحالة "الحاج زبدة" وهو
رجل عجوز (مجذوب) ينام أمام المساجد، لكنك طبعاً لن تعرف كونه مجذوباً حتى يدعوك
إلى التبوّل بصحبته وهو يبتسم بدبلوماسية توحي أنه يدعوك إلى قصّ شريط افتتاح
وزارة الريّ.
- لم يتكفل الحظر بكبح جماح اسماعين
الحزين، وقف يبكي كالأطفال أمام محله المغلق وهو يقول: "دخلوني جوّا... أنا
تعبت... أبوس أيدك يا معلّم افتح المحل وأنا مش هطلع من ورا الفاترينة... كمان
تقدر تطلع تشرب الشاي فوق براحتك" ضربه المعلّم واستهزأ به أطفال الحارة لكنه
لم يصمت. بعدها بيومين راح يملأ أكواب كبيرة من المجاري، ثم حاول توزيعها وبيعها
للمارة في الشارع –وهو ما فسر الفرار الجماعي في المنطقة من حوله-وراح يقنعهم بأنه
علاج جديد للكورونا وصّاه العالم "أبو بخّه" بنشره، رشّة واحدة تحميكم من
خطر الفيروس.
- أصبحت مغامرات اسماعين أكثر غموضاً
بل وأكثر ذكاءً مما كان تبدو عليه قبل أن تتكرم عليه "الندّاهة"، فمثلاً:
حين احتاج إلى دواء مسكّن اعتاد على شربه طوال الوقت ورفض الصيدلي أن يعطيه إياه،
وقف أمام باب الصيدلية يسلّم على الناس ويحاول أن يقبلّهم وهو يبتسم "اتفضل
يا أفندي عندنا الكمامة بـ 5ج بس" وحين طرده الصيدلي قال له "اييه! ده
انا بعملّك دعاية" ولم يذهب حتى نال ما يريد.
- مؤخراً أصبح لإسماعين رواداً ممن
يتابعون خطواته عبر الشبابيك و"البلكونات" ويصورونها لتنتشر على
الإنترنت كالنار في الهشيم، مما جعلنا نكتشف في شخصية رجل القصب فناناً لم نكن
نعرفه قبل أيام الكوارنتين. في الفيديو الأخير وعلى رصيف الحظر وقف اسماعين يتمايل
ويغني مع موسيقى الناي والعود لـ 4 ساعات كاملة، وقد أُعجب ابن المجانين بالأجواء
والجماهير فاستكمل العرض إلى أجل غير مسمى، ثم صاح قائلاً وهو يضع القصبة أو (الناي
من وجهه نظره) على فمه:
"اسمعي يا سلمى لحن الفنانين، دوبي يا حلوة كما العجين، وفكْري المعلم بالتباعد الاجتماعي عشان الكوارنتين"...
ليست هناك تعليقات