موسم الأحزان: لماذا نستمع إلى الموسيقي الحزينة؟ -دفتر الغائب



"فى ديسمبر تنتهي كل الأحلام" إختزلها (أثير عبدالله) فى عنوان روايته، وصارت أسطورة لي أتذكرها أنا فى نهاية كل خيبة -والتى عادة لا ترتبط غالباً بـ ديسمبر أو كانون، ولا تنتظر ميعاداً محدداً لتتساقط تباعاً- فأقول: (إلى دفتر الخيبات القديم انضمي يا عزيزتى. سيأتى المطر، وسأغرق معكي فى موسم الأحزان)..  نسيت أن أخبركم أنني أستمتع في الشتاء بدعوة الذكريات الحزينة إلى قتال وحشى يدوم لساعات كل ليلة تقريباً، على موسيقي الكمان والتشيلو نتقاتل حتي يمزق أحدنا الآخر. حفل تعذيب لطيف، شواء على أنغام الموسيقي، الرقص في مراسم لجلد الذات.
أشارت العديد من الدراسات إلي دور الموسيقي القوى في الحفاظ على بعض الذكريات، كما أن الأطباء النفسيين يعترفون الآن بدور الموسيقي، وأثارها فى علاج بعض الحالات. كما قام (Dan Cohen) مؤسس جمعية (الموسيقي والذاكرة) بإجراء تجربة على بعض كبار السن ومرضي الزهايمر من خلال توزيع أجهزة Ipod وتشغيل موسيقي قديمة مُحببة لهم، ثم ملاحظة التغيرات التي تطرأ عليهم حينها، وأيضاً تسجيل رواياتهم عن أحداث عاشوها أو مشاعر يشعرون بها، في محاولة منه لإثبات قدرة الموسيقي فى الحفاظ على الذكريات والمشاعر الإنسانية.
يمكنكم مشاهدة المزيد عن التجربة فى الفيلم الوثائقى: (Alive Inside: A Story of Music and Memory)

ولكن، لماذا نستمع إلى الموسيقي الحزينة؟

1- تَوْق إلى النوستالجيا: ويمكننا تعريف (النوستالجيا) بأنها كلمة تعود إلى أصل يوناني قديم (مزيج بين الشوق والألم) أما ما إصطلح عليه العالم الآن كمرادف للكلمة فهو: (الحنين إلى الماضى). في حياة كل منّا ذكريات مهمة يحب -أو يُضطر- لأن يزورها أحياناً، ذكرى نبتسم لها حين تراودنا، وأخري نبكي حين نفتقدها. الموسيقي الحزينة من الأدوات الرئيسية للوصول إلى شريط الذكريات في عقلك، وذلك بصورة واضحة وفريدة، تدركها المشاعر والحواس بسرعة فائقة.  "لا شئ سوى الموسيقي قادرٌ على إحياء كل الذكريات بداخلك" كنت دائماً ما أصِف (العود) حين سماع عزفه بأنه جَدٌ عجوز، يعرف كل الحكايات ويكررها، لا يضره إجتماع الآلات الموسيقية من حوله، لكنه حين يتكلم فإن المعزوفة كلها تحنُّ إليه بهدوء، أو تصمُتُ تماماً فيروي الجَدُ العُودُ حكايته التراثية.

2- هروب من الواقع: أحياناً ما نلوذُ بالموسيقي الحزينة كمُطّهرٍ للأوجاع الموجودة فى العالم المحيط بنا. فمثلاً: حين يتمُ إنذارك بالفصل من عملك، ربما لن تتمالك نفسك من البكاء إذا ما شغلت راديو السيارة فسمعت أغنية هانى شاكر "الحلم الكبير والبيت الصغير" علي قناتك المفضلة، سلسلة من المواجهات مع غدر الزمان وكوكبة من الإنهيارات المؤسفة سوف تسقُط عليكَ في أغنية واحدة.
يربط الخبراء النفسيون بين الحالة المزاجية للشخص والفيلم الذي شاهده مؤخراً، وعليه فإن ذلك يفسر بعض الإنفعالات الذهنية التى تطرأ على المراهقين إثرَ مشاهدة فيلم رعب مثلاً، كما يؤكد حقيقة إنسجام الإنسان مع العوامل الفنية (السمعية والبصرية) من حوله، وقدرته على خلق محاولات للهروب من الواقع عبر الشاشة أو السماعات "الموسيقي الحزينة: فرصة أن يبكي بدلاً عنك شخصٌ آخر، تقتله الألحانُ نفسها.." دائرة من البحث عن التعاطف.

3- هرمون البرولاكتين وتنظيم المزاج: بيولوجياً تتسبب الموسيقي الحزينة فى إفراز هرمون (البرولاكتين)، وهي مادة كيميائية تساعد على تقليل تأثير الحزن. تقوم الموسيقي الحزينة بخداع الدماغ لإفراز هذا الهرمون دون التعرض إلى حدث صادم حقيقي! مزيج من الألم يتولد فى عقلك، فيفرز الدماغ الـ Prolactin ليساعدك على الهدوء. تلك المعاناة التى تفهمها عقولنا، وتدركها حواسنا فى موسيقى شخص آخر، تساعدنا أحياناُ على التأقلم دون الحاجة إلى الأفيونات، لكنها أيضاً تمثل قلقاً بالغأ لأولئك الذين يميلون إلى التعاطف بشكل عام. لى صديقٌ قريب حين أدعوه إلى منزلى فإن أول ما يقوله حين يدخل "ممكن تغيرلنا الزفت ده، وتشغلنا حاجة عدلة نسمعها أو تقفله خالص" صديقى هذا يخاف من القطط، وأطيبُ من الحمام. أعرف أن الكمان يستطيع ذبحه فى لحظات.. أخافُ عليه وأكتفي بأن نسمع "وائل جسار" حياديةً بين الموسيقي الحزينة والنَغَم.
"لماذا يُتابِعُني أينما سِرتُ صوتُ الكَمانْ؟" أمل دنقل_ شجوية > للإستماع وتحميل ملف صوتى: إضغط هنا

4- صديق وهمي سهل الإستدعاء: نحتاج إلى من يسمعنا، من يستطيع فهم ما بداخلنا من الحقائق دون أن نقدم أى تنازلات لإعترافاتنا، أو مبررات لإحتياجاتنا تلك، حين نريد أن نحكي فقط.. هنا يأتى دور الموسيقي فأنت لا تسمعها فقط، ولكنها أيضاً تسمعك. أما الموسيقي الحزينة فهي لا تنصتُ فقط إلى وجعك، وإنما تقدم لك التعاطف أيضاً. تستطيع معانقة الموسيقي فى أى وقت، فهي لن تتأخر، ولن تتركك دون أن تهمس إليك بأن "لكلٍ وجعه الخاص". سوف تساعدك أيضاً فى حالات الإستجواب التى تمُر بها مع ذاتك أحياناً، تشاركك التساؤلات، وتضمك فى شجنٍ حين تمر بعاصفة الـOverThinking التى تجتاحك كل ليلة فى موسم الأحزان.


المصادر:

Sad Music: #DontListen (Notforyou) #SoundCloud

ليست هناك تعليقات