إيچوهات | بابا نويل بيوزع استروكس (الجزء الأول) | دفتر الغائب


تبقي يومٌ واحد فقط علي رأس السنة الميلادية 2020، لقد عُدتُ في الميعاد المرتّب في خطتي بالضبط. المشاهد حولى في مصر لها طعم مختلف، غريبٌ، فلا يمكنني أن أصِفَهُ بالحَنين. قد قرأت عن الغياب شيئاً، غرقت لليالي في أشعار محمود درويش، لكنني لم أعرف مذاقه حتي الآن، ولا أظن أن شيئاً ما تغير حين عٌدت إلى مصر بعد 10 سنوات. 
لم أشعر سوي بأن هناك "كّبسِة نَفَس طابقة عالبلد" بلغة أمى، ما زلت لا أتخيل ما ستفعله حين تراني عائداً إلي البيت بعد أن فقدت الأمل تقريباً فى رجوعى من (بلاد الخواجات). سافرت إلى أمريكا لأحصل على درجة الماجيستير فى تخصص الأدب اليونانى، كانت الخطة فى البداية أن لا أتجاوز أربعة سنوات فى الغُربة، لكن الظروف تنتصر أحياناً. فقد كانت إجابة التصويت دائماً ما تأتي بـ(لا) الكلية والجزئية حين أُفاتح عائلتي الصغيرة فى موضوع السفر. أقسمت أمى على التبرؤ من ولدها الوحيد إذا ما قررت الرحيل إلى "بلاد الخواجات" تاركاً وراءه "2 ولايا" من غير راجل يحميهم! حاولت تبرير ردة فعلها المُتوقّعة بأن تأثير المسلسلات المصرية القديمة وأغانى شادية ما زال قوياً على أحكامها، إبتسمتُ وأنا أقبُّلُ يمينها وأقول:"لكن يا حاجّة مش يمكن أقدر حماية مادية ومعنوية أكبر وأنا فى بلاد الخواجات؟" أنا ماليش غيرك إنت وأختى فمش صعب تيجوا تعيشوا معايا بعد سنة ولا إتنين!  تمالكت دموعها وهى ترد: "البهدلة فى بلدك أرحم من الغُربة اللى مالكش حد فيها، بلدك مفيش أحسن منها يابنى" لم تكُن تعلم أن بلادي العزيزة تكافئني شهرياً بما يقارب ال60 دولار، كراتب لمُعيد مادة (الأدب اليوناني) المتفوق، بشرط أن أنشر أبحاثى مجاناً لطلاب الجامعة! وهو ما لا أريد ثمناً له بالفعل، لكنني أيضاً لا أنوي إستكمال رحلتى كسائق "اوبر" ليلاً لتوفير الحاجات اللازمة للمعيشة، وذلك لأسباب تتعلق بأعصابي. كما أننى لا أنوى إخبارها بتلك الرحلة الليلية الإجبارية حتي لا أُزيد الطين بِلّة بدموعها، التي لا تبخل بها علينا أمى في كل المواقف.

ما لم يكُن في الحسبان هو أن أجد نفس الجينات المصرية الدرامية قد إمتدت إلى أختي (سمية) أيضاً، كانت تكبُرُنى بعامين وتعمَلُ كمدرسة للتاريخ في مدرسة الأسود الشجعان - الثانوية منذ عشرة أعوام تقريباً، وصلت إلى رتبة (مدرس أول) بعد أن تحولت إلى نموذج لما ينبغي أن يكون عليه المنهج الدراسي في مصر إذا ما مشي على الأرض. ثرثارة، وأغلب مواضيعها خالية من المعاني أو المحتوى المهم. كانت تشبه الماكينات المُبرمجة في طريقة مشيها، وحتي في طريقة حكيّها للمواضيع كانت تبدو وكأنها تم تلقينها ما تقوله، أو كأنها تحمل رداً واحداً مُسجَّلاً، قد تُصاب بعطلِ أو (تهنيج) إذا ما فكرت في تغييره. أحياناً حين يحتدم نقاشٌ ما بيننا فإنها تستمر في تكرار نفس الجُمل والكلمات لعدة مرات ثم تحاول ترتيبها بشكل مُختلف، ربما إعتقاداً منها بأن ذلك ربما يُضيف جديداً لرسالتها. 
حين أخبرتها بأننى عزمتُ السفر إلى أمريكا لإكمال دراستي، لم تسألنى عن تفاصيل أكثر، لكنها بدأت فورأ في الحديث، وكأنها رتبت لتلك المحادثة بحثاً منقولاً من إحدي صفحات الإنترنت التي تنشر موضوعات التعبير الخاصة بالشهادة الإبتدائية. قالت: "طبعاً (للسفر سبع فوايد) محدش يقدر يقولك متسافرش، لكن فكرت في إن فرحى ممكن يكون قريب؟ ثم أمك أكيد مش هترضي بموضوع أمريكا ده خالص"
رديت: "يا سلام عليكي يا سُمية، كنت محتاج الكلمتين دول فعلاً وخاصة موضوع السبع فوايد ده، وفرحِك يا ستى أكيد هنزلك وأحضره معاكي طبعاً، أهم حاجة أنا محتاجك تقنعى ماما بموضوع السفر عشان هي مش عايزة تسمعني وبتقولى هتتبري مني" ظلّت صامتة لدقائق تجهمت خلالها كصنمٍ حيران، ثم قامت وذهبت إلى دولاب ملابسها الصغير، أخرجت "ووكمان" صغير وشريط كاسيت ثم وضعتهم بين يدي وقالت: "طالما إنت نويت خلاص كدة يبقي خلّي دول معاك، اسمعه هناك في أمريكا، يمكن تفتكر ساعتها ذكرى حلوة هنا في مصر، فتحنّ وترجعلنا أنا وماما.." تركت صورة صغيرة على السرير، ثم قامت. –كانت الصورة تجمعنا نحن الثلاثة مع والدي الراحل أمام قفص القرود في حديقة الحيوانات بالجيزة منذ 20 عاماً تقريباً-  لم أكن أعلم قبل تلك اللحظة أن (سُمية) تحملُ لي في برمجياتها كل هذا الحب! كما أنني إندهشت فعلاً من قدرتها على إقناع والدتى في غضون أيامٍ قليلة، لا شك أن للنساء لغة لا نستطيع أن نتكلم بها نحنُ معشر الرجال المجبولين على العملية حتى في الأحاديث.


وصلتُ إلى نيويورك بعد حوالى شهر من تلك النقاشات العائلية، شهر نوفمبر 2010 تقريباً. إستقبلني مُمثل من الجامعة في المطار يُدعي (مايكل) يدرُسُ معي في نفس القسم، كما أنه من الجالية المصرية هناك منذ زمن ويعرِفُ الكثير من التفاصيل.
فتحتُ شريط الكاسيت حين وصلت إلى الفندق فوجدته البوم "الطول واللون والحرية" للفنان محمد منير " بالظبط الشَعر الى بحبه، الطول واللون والحرية، ده مهفهف علي وشك لعبه، هاوصفلك ايه يغمي عليه" على صوت الفنان الأسمر نِمتُ الليلة الأولى في أمريكا. في أحلامي رأيتُ سيارة أبي الفيات128، شرائط أم كلثوم ومنير وعبد الباسط حمودة لزوم الفرفشة في المشاوير، سمعت ضحكة أبي في عيد ميلاد (سُمية) حين إنفجرت بالّونة في وجهه وهو يقول لى: "روح إنفخ انت البلالين لأختك أنتوا جايبين بلالين ضعيفة مش قدى" إعترضتُ وأنا أنظر شذراً إلى الهدية الكبيرة التي تخصها، مُوضحاً بأن سمية هي الكبيرة، فلماذا لا تنفخها لنفسها؟ أجابني وهو يداعب خصلات شعري "عشان انت الراجل، هي الكبيرة لكن إنت أقوى. والقوي دايماً لازم يحنّ على الضعيف ويحميه صح؟.. لا أدرى بعدها كيف نفختُ هذا العدد من البلالين وقُمتُ بتوزيعها في أرجاء المنزل! علمني أبي (قوة أن تكون طيباً) عليّه رحمة الله، لقد زرع في شخصيتي تلك السعادة التي تنتابُنى حين أساعد الآخرين أو أقدم لهم معروفاً "لا تنسي أن تحمِل البونبون فى جيبك دائماً" 
 لم أنسي أيضاَ أن أُخبئ شريط الكاسيت والصورة في حقيبة سفرى، لم أعُد إليهم إلّا في طائرة العودة إلى مصر. رُحت أُراجِع تفاصيل خطة عيد الميلاد التي جهزتها، رسمتُ وجوهاً صغيرة لـ(بابا نويل) علي صفحة جريدة توزعها شركات الطيران الأمريكية مجاناً، يُزين صدرها شجرة كريسماس كبيرة، فى الأسفل وجدت مقالة صغيرة تُشير إلى أخطار (مَزيجٍ مُخدِر) إنتشر فى العديد من الدول الفقيرة تحت مسمي "استروكس"..

-         نهاية الجزء الأول

ليست هناك تعليقات