الذين لا يملكون حق شراء الكبير 1/2 | دفتر الغائب
قالها جدي ونحن نجلس أمامه في زاوية بعيدة لنتناول الغداء على الأرض -بينما يتناول غدائه على مائدة بمقاس محدد أمام كرسيه وبترتيت مُعين للمائدة- في أحد زيارات
العيد لمنزله الكبير في القرية "اللي مالوش كبير يشتري له كبير" رداً على
شكوى أبي من مناقشتي له علي الدوام، وعدم تنفيذ أوامره بصورة عمياء كما أمرنا الله ورسوله. لم
يكن جدي ظاهر التدين مثل أبي ليتخذ نفس الأسلوب، فلم يكن يرتدي الجلباب، ولما أره أبداً يمسك عصا
للاتكاء اقتداءً بالنبي موسي كما يفعل أبي، على الرغم من أنني حين زرته للمرة
الأولى اكتشفتُ أن ساقيه مبتورتان، لكن اختفاء سيقانه لم يُفقده من هيبته ولو
شيئاً قليلاً، فقد أصبح لا يتحرك من مكانه! فهو يأمر ويُجاب، ويَرمقُ فيُجتنبْ. لم
أجرؤ حينها على سؤاله عمّا تعني تلك المقولة، فلم يكن أحد يجرؤ على رفع رأسه أصلاً
إذا تحدث إليه جدي، لا أن يرد أو يعارض كلامه، ربما أحرقني بصاعقة من عينيه لو أننى فعلت، لذا فقد اكتفيت بالصمت. لكنني لم أنسى تلك المقولة حتى يومنا هذا، فقد أصبحت تظهر لي هيئة
"الكبير" الذي لا بد وأن يكون موجوداً وإلا فلتشتره في صور متعددة،
تختلف باختلاف المواقف، فمثلاً: المال (كبير) لا بد وأن يكون موجوداً، وإن لم يكن
فستشتريه بـ وقتك-ذهنك-جسدك... وهذا إن كان الموقف يتخذ شكلاً إقتصادياً في تحليلي.لم يرشدني جدي إلي كبير بعينه ولم يترك أبي لي
خياراً حتى أعرف أنه ليس من يقصده الجَد العجوز. فإلى: الذين لم يملكوا رفاهية
الكبير الحامي، والمرشد الهادي...
ألا يُمكن للحب أن يكون الكبير؟
المحبة أصيلة في الطابع الإنساني، فصعب أن تجد شخصاً لا يُحب أحداً، أو لا
يتعاطف مع فئة تخصه عن باقي الفئات! فهل يمكن للمحبة أو السلام أن يكون كبيراً
لأحدهم، أو مبتغاً لآخر فيشتريه؟! هذا ما كنت أؤمن به. فكل ابن آدم يبحث عن الحب،
في الأشخاص أو الأشياء، ثم ينتمي إليه قلبه، ليصبح سلطانه وكبيره، يجده أحدهم في
ناي يرافقه على سفح الجبل، أمَا الآخر فيلاقيه على طاولة أرضية تضُمُ أفراد
عائلته. أما أنا فقد وجدت الحُب سريعاً، فأمي نهراً يفيضُ به. أما بنت الجيران فلم
تتركني لأبحث عن الحب خارج البناية، هِمتُ بها، فقد كانت تشبه تماماً ما أحتاجه من
الحب حينها. نقتسم الحلوى والقُبٌلات السريعة، وأحيانا نتشارك البكاء.
لم يتركني أبي لأتذوق طعم الحب في عصر بنت الجيران، حطم شرائط كاظم الساهر،
وأحرق ألبومات صور الفنانات التي جمعناها أنا وهي من شراء العلكة، ثم أغلق إحكام
الشبابيك بالمسامير. كُنت أفكر في ليلة ما، أن أقوم بعمل ثقب صغير في الحائط ثم
أمرر لها منه رسالة! لم تصل إليها رسائلي، ولم أصل أنا إلى كبيري، والذي تأكدتُ
خاصة بعد قراءتي للشعر بأنه الحب. لكنني لم أختر مذهبي فيه حتى بلغ الشيبُ رأسي، لأتساءل: هل كنت من أولئك الذين لا يملكون كبيراً، بل ولا يملكون حتى حقوق
شرائه؟!.
-رسالة في المحبة ..دفتر الغائب 1/2
ليست هناك تعليقات