أولياء بلا مزار "تدوينات على جدار الدراويش 1" - دفتر الغائب

أولياء بلا مزار "تدوينات على جدار الدراويش 1"

فى بلادي يكثُر الأولياء والقديسون، ربما لم تصادف واحداً منهم لكنهم موجودون أينما مررت أو نظرت. لكنهم لا يباهون بما آتاهم الله من الحكمة والمعرفة. يخشون الظهور غالباً، ويتعمدون الإشتغال بالمهن البسيطة التى لا تجذب النظر أو تدعو إلى دوام الإتصال مع البشر. في العمارات المتهالكة القديمة مثلاً: لاحظ (حارس العقار) ذلك العجوز الذي تراه إختار كرسياً ليجلس أمام باب عمارة لا يسكن فيها أحدٌ أصلاً! جرب أن تقترب من تلك البناية التى لا تري فيها من بعيد إلا لمبة واحدة، ذلك الرجل الجالس تحتها هناك هو ولىٌ أو قديس بنسبة قد لا تحتمل الشك -بالنسبة لتحليلاتي الميدانية الخاصة طبعاً- ولكن فلتجرب أن تقترب وتُسلم عليه، ولا تنسي أن تدعوا لى. لا تنسي أيضاً حين يخبرك عن إسمه أن لا ترد بأى محاولة تأكيدية لـ(خانة الديانة) فى سجل دماغك. للقديسون ديانات وطقوس خاصة، تختلف عما نعرفه نحن العامة من شعائر وعبادات.
"حين تختلفُ الرؤية بالوصول، فلا بُد أن تختلف الأحكام بالرِفعة"

كيف رتبتُ غرفتى لأصبح من الأولياء

كل الكتب التى وصلت إليها عن (الأولياء والقديسين) لم تُشفي شغفى فى الحصول على المعلومات الكاملة عن الموضوع. أذكُرُ أنني قد بدأت من (الحلاج)، قرأت عن شخصيته، ثم قرأت بعض كتاباته بعدها وحفظت سطوراً من أشعاره. لقد فُتنت بسيرة ذلك الرجل و"طواحينه الأزلية" منذ اللقاء الأول. - هناك العشرات من الكتب التى تدور حول (الحلاج) وفلسفاته وأشعاره، يمكنك الوصول إلى بعضها من جودريدز -الحلاج مثلاً-  قادنى هذا اللقاء إلى قراءات أخرى عديدة مثل (جلال الدين الرومي) و (محيي الدين ابن عربي) لكنني وحتي الآن  لم أصل إلى ضالتى المقصودة وهى: (صفات وعلامات محددة، تظهرُ على كل الأولياء فى كل الأزمنة)  ما فعلته هو أننى عرفت مزيداً منهم وعنهم، ولكن -هل اختفوا من الوجود فى العصر الحالى؟!- تضاعف إعجابي ودهشتى وحجم فضولى بالتباعية طبعاً. دوّنت سطراً صغيراً فى دفترى الصغير (إنهم لا يكتبون كل الأشياء). 

خطرت لى فكرة عظيمة، عتيقة لكنَها مُجرّبة ومحسومة النتائج تقريباً، كما أنها تستحق المخاطرة! فى البداية: لابُد أن تتسع غرفتى قليلاً. لم أجد حولى أشياء صالحة للإزالة أو التغيير فى محاولاتى لسد عجز المساحات، فـ (المكتبة، السماعات، سرير وكرسي) لا أظن أنني سأجد لهم مكاناً مناسباً خارج غرفتي الخاصة! بالكاد أعدت ترتيبهم، ثم فرشت سريراً صغيراً علي الأرض. يمكنني البدء الآن فى خطوات التنفيذ، سأبحث عن واحداً من الأولياء، شوارع المحروسة لا أظن أنها ستخذلني! بالذات وإن ركزت بحثي على المواصفات العامة التى عرفتها من الكتب. سأحاول إقناعه بأن يستأجر غرفتى بلا مقابل؛ معها ثلاث وجبات ومشروبات "اوبن بوفيه" مقابل أن يتكلم فقط. ربما أصل عبر تحليل كلامه، وسؤاله عن بعض الأشياء -حين يطمأن لمحادثتي-  إلى نتائج محددة تُطفئ ذلك الشغف الروحانى الذي أوصلنى إلى تلك الفكرة المجنونة! 

درويش صامت وعلامات جنون

كان الصمت هو النتيجة الوحيدة التى وصلت إليها فى النهاية. وذلك لأن "شوارع المحروسة" لم تخذلنى فعلاً، لكنها جعلتنى أرى أكثر مما قد أتوقع أو أتحمل! فتحت أبوابها أمامى بكرمٍ عجيب وكأنها تكافئني على ثقتى بمكانتها فى العالم الصوفي. لأكثر من عشرين شهر رحت أجوب الشوارع وكأننى بين دفتى مجلد ضخم (يحتوي على صورة واحدة فى كل صفحة، أسفلها عنوان واحد) تختلف العناوين حسب الظروف والشخصيات، ولكنها تمُثل موضوعاً منفصلاً، حالة خاصة فى كل مشهد. حرصت على تدوين بعض السطور بعد مرور كل يوم -لكنني لم أقرر أن أُصنف مجلداً فى الحكايات الصوفية حتي الآن، ما زلت لا أملك المقدرة اللغوية على التعبير، فاللغة العربية تحمل فى ذاتها خصائص من الصوفية لم أرتقِ اليها- زادنى البحث نهماً وزادتنى الكتابة حيرة! وضعت دائرة على بعض أسماء الأشخاص كعلامة لتركيز الإنتباه. من تلك الدائرة الكبيرة قد تطاير أسهم هنا وهناك: (خصائص، أسماء، عناوين وربما إشارات لأغانى..!) سميتها "دائرة الجنون الرسمية".

في الشارع كنت أتحدثُ إلى نفسي بصوت عالٍ حينها، أناقشنى وأنا أرتدي السماعات، –"لا أحد" يكترث بما يقوله "أحدهم" طالما أنه لا يخصه، وياحبذا لو أن أحدهم لا يسمع أصلاً ما يمكن أن يقوله اللاأحد إذا إكترث- كنت أفكر فى إنهاء البحث والإكتفاء بالتدوين. ثم إكتشفت أننى في أثناء التفكير وإحتدام النقاش ربما دهست بطن كائن حي دونما أن أدرى! لم أدرك التفاصيل سوي بعد أن تدحرجت على الأرض من أثر العرقلة. لقد كان إنساناً ينام على الرصيف، لم أره، ولا أظن أنه يريد لأحد أن يراه. لف حوله غطاءاً كبيراً يغطيه بالكامل وقد اختار ركناً مظلماً تقريباً. الغريب أنه لم يتحرك تماماً! ولم يتكلم أيضاً! حتي الآن.. فقد انتقل ليتخذ نفس الوضعية على سريرى، وانتقلت أنا للنوم على الفراش الأرضي، كان (عَدَم) وهذا إسم أطلقته عليه ولم يُبدي هو أى أعتراض. 
فقط كتب لى الدرويش الصامت جملة واحدة بعد أن شرحت له خطتى (عاهدني أن تعاملنى كشبح لا يظهر إلا فى أوانٍ غير معلوم!) عاهدته وقبِل عرضي. مرّت خمسة أعوام حتى الآن ولم يأت أوان الحديث مع الشبح! لكنه إستهلك مخزوناً ضخماً من الورق بدلاً من الثلاث وجبات..


ليست هناك تعليقات